كتاب الصيام
يجب صيام رمضان وهو ركن من أركان الدين وضروري من ضرورياته .
لرؤية هلاله من عدل لصيامه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأمره للناس بالصيام لما أخبره عبد الله بن عمر أنه رآه أخرجه أبو داود والدرامي وابن حبان والحاكم وصححاه . وصححه أيضاً ابن حزم من حديث ابن عمر بلفظ تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه . وأخرج أهل السنن وابن حبان والدار قطني والبيهقي والحاكم من حديث ابن عباس قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال : إني رأيت الهلال يعني رمضان فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله قال : نعم قال : أتشهد أن محمداً رسول الله قال : نعم قال : يا بلال أذن في الناس فليصوموا غداً وأخرج الدار قطني والطبراني من طريق طاوس قال : شهدت المدينة وبها ابن عمر وابن عباس ، فجاء رجل إلى وإليها وشهد عنده على رؤية هلال شهر رمضان ، فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته فأمراه أن يجيزه وقالا : إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أجاز شهادة واحد على رؤية هلال رمضان ، وكان لا يجيز شهادة الإفطار بشهادة الرجلين قال الدار قطني تفرد به حفص بن عمر الايلي وهو ضعيف وقد ذهب إلى العمل بشهادة الواحد ابن المبارك وأحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه . قال النووي : وهو الأصح وذهب مالك والليث والأوزاعي والثوري إلى أنه يعتبر اثنان ، واستدلوا بحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وفيه فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا أخرجه أحمد والنسائي . وفي حديث أمير مكة الحرث بن حاطب قال : عهد إلينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهداً عدل نسكنا بشهادتهما أخرجه أبو داود والدار قطني وقال : هذا الإسناد متصل صحيح . وغاية ما في الحديثين أن مفهوم الشرط يدل على عدم قبول الواحد ، ولكن أحاديث قبول الواحد أرجح من هذا المفهوم ، وقد حققه الماتن رح في كتابه إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال . ويؤيد وجوب العمل بخبر الواحد ، الأدلة الدالة على قبول أخبار الآحاد على العموم ، إلا ما خصه دليل ، فمحل النزاع مندرج تحت العموم بعد التنصيص عليه بما في حديث الأعرابي وبما في حديث ابن عمر ، وأما التأويل باحتمال أن يكون قد شهد عند النبي صلى الله عليه وسلم رجل قبل شهادة ابن عمر ، فلو كان مجرد هذا الاحتمال قادحاً في الاستدلال لم يبق دليل شرعي إلا وأمكن دفعه بمثل هذا التأويل الباطل . في المسوى اختلفوا في هلال رمضان فقيل يثبت بشهادة الواحد وعليه أبو حنيفة ، وقيل لا بد من عدلين وعليه مالك . وللشافعي قولان كالمذهبين أظهرهما الأول ، ولا فرق عنده بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة . وقال أبو حنيفة في الصحو لا بد من جمع كثير . وفي العالمكيرية إذا رأوا الهلال قبل الزوال أو بعده لا يصام به ولا يفطر وهو من الليلة المستقبلة . وفي الأنوار وإذا رؤي الهلال بالنهار يوم الثلاثين فهو لليلة المستقبلة .
أو إكمال عدة شعبان لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين والأحاديث في هذا المعنى كثيرة . وفي الحجة البالغة ، لما كان وقت الصوم مضبوطاً بالشهر القمري باعتبار رؤية الهلال ، وهو تارة ثلاثون يوماً وتارة تسع وعشرون ، وجب في صورة الاشتباه أن يرجع إلى هذا الأصل ، وأيضاً مبنى الشرائع على الأمور الظاهرة عند الأميين دون التعمق والمحاسبات النجومية ، بل الشريعة واردة بإخمال ذكرها وهو قوله صلى الله عليه وسلم : إنا أمة أمية لا تكتب ولا نحسب انتهى .
ويصوم ثلاثين يوماً ما لم يظهر هلال شوال قبل إكمالها وجهه ما ورد من الأدلة الصحيحة ، أن الهلال إذا غم صاموا ثلاثين يوماً كحديث أبي هريرة المذكور ، ومثله في صحيح مسلم من حديث ابن عمر ، ومن حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي والترمذي ، وصححه من حديث عائشة عند أحمد وأبي داود والدار قطني بإسناد صحيح ، وغير ذلك من الأحاديث وفيها التصريح بإكمال العدة الثلاثين يوماً في بعضها عدة شعبان ، وفي بعضها ما يفيد أنها عدة رمضان ، وفي بعضها الإطلاق وعدم التقييد بأحد الشهرين . قال في الحجة : قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : شهراً عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة قيل لا ينقصان معاً ، وقيل لا يتفاوت أجر ثلاثين وتسعة وعشرين ، وهذا الآخر أقعد بقواعد التشريع ، كأنه أراد سد أن يخطر في قلب أحد ذلك انتهى .
أقول : يمكن أن يقال : إن هذا إخبار من الشارع بعدم دخول النقص في الشهرين المذكورين ، فما ورد عنه أنه يكون الشهر تسعة وعشرين عام مخصص بالشهرين المذكورين وما ورد في خصوص شهر رمضان مما يدل على أنه قد يكون تسعة وعشرين ، فيمكن أن يقال فيه أن ذلك إنما هو باعتبار ما ظهر للناس من طلوع الهلال عليهم ، وفي نفس الأمر ذلك الشهر هو ثلاثون يوماً . قال بعض المحققين : التكليف الشهري علق معرفة وقته برؤية الهلال دخولاً وخروجاً أو إكمال العدة ثلاثين يوماً ، فهل في الأكوان أوضح من هذا البيان والتوقيت في الأيام والشهور بالحساب للمنازل القمرية بدعة باتفاق الأمة انتهى .
أقول : أن الرؤية التي اعتبرها الشارع في قوله صوموا لرؤيته هي الرؤية الليلية لا الرؤية النهاية ، فليست بمعتبرة ، سواء كانت قبل الزوال أو بعده ، ومن زعم خلاف هذا فهو عن معرفة المقاصد الشرعية بمراحل . واحتجاج من احتج برؤية الذين أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم رأوه بالأمس باطل كاحتجاج من احتج على وجوب الإتمام بقول تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل وكلا الدليلين لا دلالة لهما على محل النزاع . وأما الأول فإنهم إنما أخبروا عن الرؤية في الوقت المعتبر وذلك مرادهم بلفظ أمس كما لا يخفى على عالم وأما الثاني فالمراد به وجوب إتمام الصيام إلى الوقت الذي يسوغ فيه الإفطار تعييناً لوقته الذي لا يكون صوماً بدونه .
والحاصل : أن المجادلة عن هذا القول الفاسد وهو الاعتداد برؤية الهلال نهاراً يأباه الإنصاف ، وإن قال المتخذلق إن الاعتبار بالرؤية وقد وقعت لحديث صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته والاعتبار بعموم اللفظ ونحو ذلك من المجادلات التي لا يجهل صاحبها أنه غالط أو مغالط ، ولو كان هذا صحيحاً لوجب الإفطار عند كل رؤية للهلال في أي وقت من أوقات الشهر وهو باطل بالضرورة الدينية .
وإذا رآه أهل بلد لزم سائر البلاد الموافقة وجهه الأحاديث المصرحة بالصيام لرؤيته والإفطار لرؤيته ، وهي خطاب لجميع الأمة ، فمن رآه منهم في أي مكان كان ذلك رؤية لجميعهم ، وأما استدلال من استدل بحديث كريب عند مسلم وغيره أنه استهل عليه رمضان وهو بالشأم ، فرأى الهلال ليلة الجمعة ، فقدم المدينة فأخبر بذلك ابن عباس فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت ، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه ، ثم قال : هكذا أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وله ألفاظ فغير صحيح ، لأنه لم يصرح ابن عباس بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمرهم بأن لا يعملوا برؤية غيرهم من أهل الأقطار ، بل أراد ابن عباس أنه أمرهم بإكمال الثلاثين أو يروه ، ظناً منه أن المراد بالرؤية رؤية أهل المحل وهذا خطأ في الاستدلال أوقع الناس في الخبط والخلط حتى تفرقوا في ذلك على ثمانية مذاهب . وقد أوضح الماتن المقام في الرسالة التي سماها اطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال في الهلال من الاختلال . قال في المسوى : لإخلاف في أن رؤية بعض أهل البلد موجبة على الباقين ، واختلفوا في لزوم رؤية أهل بلد أهل بلد آخر . والأقوى عند الشافعي يلزم حكم البلد القريب دون البعيد . وعند أبي حنيفة يلزم مطلقاً .
وعلى الصائم النية قبل الفجر لحديث حفصة عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال : من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له أخرجه أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان وصححاه ، ولا ينافي ذلك رواية من رواه موقوفاً ، فالرفع زيادة يتعين قبولها على ما ذهب إليه أهل الأصول وبعض أهل الحديث ، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من أهل العلم وخالفهم آخرون واستدلوا بما لا تقوم به الحجة . أما حديث أمره صلى الله عليه وسلم لمن أصبح صائماً أن يتم صومه في يوم عاشوراء فغاية ما فيه ، أن من لم يتبين له وجوب الصوم إلا بعد دخول النهار كان ذلك عذراً له عن التبييت وأما حديث أنه صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه ذات يوم فقال : هل عندكم من شئ ؟ فقالوا لا فقال : فإني إذن صائم فذلك في صوم التطوع . قال في المسوى : قال الشافعي : يشترط للفرض التبييت ، ويصح النفل بنيته قبل الزوال . وقال أبو حنيفة : يكفي في الفرض والنفل وأن ينوي قبل نصف النهار ، ولا بد في القضاء والكفارات من التبييت . أقول : وأما أنه يجب تجديد النية لكل يوم ، فلا يخفى أن النية هي مجرد القصد إلى الشئ أو الإرادة له من دون اعتبار أمر آخر . ولا ريب أن من قام في وقت السحر ، وتناول طعامه وشرابه في ذلك الوقت من دون عادة له به في غير أيام الصوم ، فقد حصل له القصد المعتبر ، لأن أفعال العقلاء لا تخلو عن ذلك ، وكذلك الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس لا يكون إلا من قاصد للصوم بالضرورة إذا لم يكن ثم عذر مانع عن الأكل والشرب غير الصوم ، ولا يمكن وجود مثل ذلك من غير قاصد ، إلا إذا كان مجنوناً أو ساهياً أو نائماً كمن ينام يوماً كاملاً ، وإذا تقرر هذا ، فمجرد القصد إلى السحور قائم مقام تبييت النية عند من اعتبر التبييت ، ومجرد الإمساك عن المفطرات وكف النفس عنها في جميع النهار يقوم أيضاً مقام النية عند من لم يعتبر التبييت . ومن قال أنه يجب في النية زيادة على هذا المقدار فليأت بالبرهان ، فإن مفهوم النية لغة وشرعاً لا يدل على غير ما ذكرناه . وهكذا سائر العبادات ، فإن مجرد قصدها كاف من غير احتياج إلى زيادة على ذلك . مثلاً يكفي في نية الوضوء مجرد دخول المكان المعتاد لذلك ، والاشتغال بغسل الأعضاء المخصوصة على الصفة المشروعة ، وكذلك في الصلاة ، يكفي الدخول في المحل الذي تقام فيه ، والتأهب لها والشروع فيها على الصفة المشروعة ، فإن القصد والإرادة لا زمان لهذه الأفعال لعدم صدور مثل ذلك من العقلاء لمجرد اللعب والعبث *
فصل ويبطل الصوم بالأكل والشرب عمدا لا مع النسيان
يبطل بالأكل والشرب عمداً لا خلاف في ذلك ، وأما مع النسيان فلا ، لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة فقال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من نسي وهو صائم ، فأكل وشرب فليتم صومه ، فإنما الله أطعمه وسقاه وفي لفظ للدار قطني بإسناد صحيح فإنما هو رزق ساقه الله إليه ولا قضاء عليه وفي لفظ آخر للدار قطني وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من أفطر يوماً من رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة وإسناده صحيح أيضاً قاله الحافظ ابن حجر . وأخرج الدار قطني من حديث أبي سعيد مرفوعاً من أكل في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه قال ابن حجر : وإسناده وأن كان ضعيفاً ، ولكنه صالح للمتابعة ، فأقل درجات هذا الحديث بهذه الزيادة أن يكون حسناً ، فيصلح للاحتجاج به انتهى . وقد ذهب إلى العمل بهذا الجمهور ، وهو الحق ، ومن قابل هذه السنة بالرأي الفاسد ، فرأيه رد عليه مضروب في وجهه .
و هكذا الجماع لا خلاف في أنه يبطل الصيام إذا وقع من عامد ، وأما إذا وقع مع النسيان فبعض أهل العلم ألحقه بمن آكل أو شرب ناسياً ، وتمسك بقوله في الرواية الأخرى من أفطر يوماً من رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة وبعضهم منع من الإلحاق .
أقول : إفساد الصوم بالوطء لا يعرف في مثل هذا خلاف ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن المجامع في رمضان قال النبي صلى الله عليه وسلم : هلكت يا رسول الله قال : وما أهلكك ؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان فأمره بكفارة وفي رواية لأبي داود وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال له : وصم يوماً مكانه وهذه الزيادة مروية من أربع طرق ويقوى بعضها بعضاً . ويدل على تحريم الوطء للصائم واجباً مفهوم قوله سبحانه : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم .
والقيء عمداً لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ، ومن استقاء عمداً فليقض أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والدار قطني والحاكم وصححه . وقد حكى ابن المنذر الإجماع على أن تعمد القيء يفسد الصيام وفيه نظر ، فإن ابن مسعود وعكرمة وربيعة قالوا : إنه لا يفسد الصوم سواء كان غالباً أو مستخرجاً ما لم يرجع منه شئ باختياره . واستدلوا بحديث ثلاث لا يفطرن القيء والحجامة والاحتلام أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد ، وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف ، وعلى فرض صلاحيته للاستدلال فلا يعارض حديث أبي هريرة ، لأن هذا مطلق وذاك مقيد بالعمد .
أقول : حديث أبي هريرة المتقدم هو في عدة من كتب الحديث ، وله طرق مختلفة ينتهض معها للاستدلال ، وفيه الفرق بين المتعمد للقيء وغير المتعمد ، ولا يعارض هذا حديث أبي سعيد المتقدم ، لأنه عام مخصص الحديث الفرق بين المتعمد وغير المتعمد ، فيكون معناه أن القيء إذا وقع من غير اختيار الصائم بل ذرعه كان غير مفطر ، وهذا الجمع لا بد منه ويؤيده حديث أنه صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فإن بعض الحفاظ فسره بأنه استقاء ، والمراد بالاستقاء تعمد القيء كما صرح به أهل العلم .
وتحرم الوصال لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في حديث أبي هريرة ، ابن عمر وعائشة وهو في الصحيحين وغيرهما وفي الباب أحاديث .
وعلى من أفطر عمداً كفارة ككفارة الظهار لحديث المجامع في رمضان ، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له : هل تجد ما تعتق رقبة ؟ قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . قال : فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً ؟ قال : لا ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال : تصدق بهذا قال : فهل علي أفقر منا فما بين لابتيها أهل بيت أحوج منا ، فضحك النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه وقال : أذهب فأطعمه أهلك وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وعائشة وقد قيل أن الكفارة لا تجب على من أفطر عامداً بأي سبب بل بالجماع فقط ، ولكن الرجل إنما جامع امرأته فليس في الجماع في نهاية رمضان إلا ما في الأكل والشرب ، لكون الجميع حلالاً لم يحرم إلا لعارض الصوم وقد وقع في رواية من هذا الحديث أن رجلاً أفطر ولم يذكر الجماع .
أقول : إذا ورد ما يدل على وجوب مثل كفارة الظهار ، وورد ما يدل على أنه يجزيء أقل منها ، كان ورود الأقل رخصة لمن لا يجد مثل كفارة الظهار ، وهذا ظاهر لا لبس فيه .
ويندب تعجيل الفطر وتأخير السحور لحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وهو في الصحيحين وغيرهما وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر أخرجه أحمد وفي إسناده سليمان بن عثمان قال أبو حاتم : مجهول . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث زيد بن ثابت أنه كان بين تسحره صلى الله عليه وسلم ودخوله في الصلاة قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية . وفي الباب أحاديث كثيرة *
فصل وجوب القضاء على من أفطر لعذر شرعي
ويجب على من أفطر لعذر شرعي أن يقضي كالمسافر والمريض ، وقد صرح بذلك القرآن الكريم فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وقد ورد في الحائض حديث معاذة عن عائشة وقد تقدم ذكره والنفساء مثلها .
والفطر للمسافر ونحوه رخصة إلا أن يخشى التلف أو الضعف عن القتال فعزيمة الأحاديث في ذلك كثيرة منها : قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إن شئت فصم وإن شئت فأفطر لما سأله حمزة بن عمرو الأسلمي عن الصوم في السفر وهو في الصحيحين من حديث عائشة ، وفيه دليل على تفويض الفطر في الصوم وعدمه إلى المسافر ، ومن حمله على صوم التطوع فلم يصب ، فإنه عند أبي داود والحاكم وصححه أنه قال : ربما صادفني هذا الشهر يعني رمضان . وأما حديث أنه قيل له صلى الله عليه وسلم أن جماعة لم يفطروا في سفر من أسفارهم فقال : أولئك العصاة فذاك لأنه صلى الله عليه وسلم قد كان أمرهم بالإفطار في ذاك اليوم بخصوصه ، فسماهم عصاة لمخالفة أمره لا لمجرد الصوم في السفر . وأما حديث ليس من البر الصيام في السفر وهو متفق عليه ، ففي رواية زادها النسائي في هذا الحديث عليكم برخص الله التي رخص لكم فاقبلوا فالتصريح بالرخصة مشعر بأن الصوم عزية وهو المطلوب . وأما ما روي بلفظ الصائم في السفر كالمفطر في الحضر فقد صحح جماعة من الحفاظ وقفه على عبد الرحمن بن عوف ، ولا حجة في ذلك . وفي الصحيحين من حديث أنس كنا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر . ولا المفطر على الصائم وأخرج مسلم وغيره عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال يا رسول الله : أجد مني قوة على الصوم فهل علي جناح فقال : هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه وفي الصحيحين من حديث جابر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال : ما هذا ؟ فقالوا : صائم . فقال : ليس من البر الصوم في السفر وأخرج مسلم وأحمد وأبو داود من حديث أبي سيد قال : سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام قال : فنزلنا منزلاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم ، فكانت رخصة فمنا من صام ، ومنا من أفطر ، ثم نزلنا منزلاً آخر فقال : إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم فافطروا فكانت عزيمة ، ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وقد ذهب إلى كون الصوم رخصة في السفر الجمهور ، وروي عن بعض الظاهرية ، وهو محكي عن أبي هريرة أن الفطر في السفر واجب ، وأن الصوم لا يجزيء . والمراد بنحو المسافر الحبلي والمرضع لما أخرجه أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي من حديث أنس بن مالك الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ، وعن الحبلى والمرضع الصوم .
ومن مات وعليه صوم صام عنه وليه لحديث عائشة في الصحيحين وغيرها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه وقد زاد البزار لفظ إن شاء قال في مجمع الزوائد : وإسناده حسن ، وبه قال أصحاب الحديث وبعض الشافعية وأبو ثور والأوزاعي وأحمد بن حنبل قال البيهقي في الخلافيات : هذه السنة ثابتة لا أعلم خلافاً بين أهل الحديث في صحتها . وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يجب صوم الولي عن وليه . وقال في الحجة : ولا اختلاف بين قوله صلى الله عليه وسلم : من مات وعليه صوم صام عنه وليه وقوله فيه أيضاً : فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً إذ يجوز أن يكون كل من الأمرين مجزئاً . قال ابن القيم في أعلام الموقعين : وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه وقالت : يصام عنه النذر والفرض ، وأبت طائفة ذلك وقالت : لا يصام عنه نذر ولا فرض ، وفصلت طائفة فقالت يصام النذر دون الفرض الأصلي وهذا قول ابن عباس وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه وهو الصحيح ، لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة ، فكما لا يصلي أحد عن أحد ولا يسلم أحد عن أحد فكذلك الصيام ، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين ، فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه ، وهذا محض الفقه وطرد هذا أنه لا يحج عنه ولا يزكي عنه إلا إذا كان معذوراً بالتأخير ، كما يطعم الولي عمن أفطر في رمضان لعذر ، فأما المفطر من غير عذر أصلاً فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض الله تعالى التي فرض فيها وكان هو المأثور بها ابتلاء وامتحانا دون الولي ، فلا ينفع توبة أحد عن أحد ولا إسلامه عنه ولا أداء الصلاة عنه ولا غيرها من فرائض الله تعالى التي فرط فيها حتى مات والله تعالى أعلم .
أقول : الظاهر والله أعلم أنه يجب على الولي أن يصوم عن قريبه الميت إذا كان عليه صوم ، سواء أوصى أو لم يوص ، كما هو مدلول الحديث ، ومن زعم خلاف ذلك فليأت بحجة تدفعه .
والكبير العاجز عن الأداء والقضاء يكفر عن كل يوم بإطعام مسكين لحديث سلمة بن الأكوع الثابت في الصحيحين وغيرهما قال: لما نزلت هذه الآية وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وأخرج هذا الحديث أحمد وأبو داود عن معاذ بنحو ما تقدم وزاد ثم أنزل الله فمن شهد منكم الشهر فليصمه فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ، ورخص فيه للمريض والمسافر ، وأثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام وأخرج البخاري عن ابن عباس أنه قال : ليست هذه الآية منسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً وأخرج أبو داود عن ابن عباس أنه قال : أثبتت للحبلى والمرضع أن يفطرا ويطعما كل يوم مسكيناً وأخرج الدار قطني والحاكم وصححاه عن ابن عباس أنه قال رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ولا قضاء عليه وهذا أنه قال وهذا من ابن عباس تفسير لما في القرآن مع ما فيه من الأشعار بالرفع ، فكان ذلك دليلاً على أن الكفارة هي إطعام مسكين عن كل يوم .
أقول : لم يثبت في الكفارة على من لم يطق الصوم شئ من المرفوع في شئ من كتب الحديث ، وليس في الكتاب العزيز ما يدل على ذلك ، لأنه قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين إن كانت منسوخة كما ثبت عن سلمة بن الأكوع عند أهل الأمهات كلهم أنها كانت في أول الإسلام ، فكان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نسختها الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه . ومثل ذلك روي عن معاذ بن جبل أخرجه أحمد وأبو داود ومثله عن ابن عمر أخرجه البخاري، فالمنسوخ ليس بحجة بلا خلاف ، وإن كانت محكمة كما رواه أبو داود عن ابن عباس ، فظاهرها جواز ترك الصوم لمن كان مطيقاً غير معذور ووجوب الفدية عليه ، وهو خلاف ما أجمع عليه المسلمون . وأما قول ابن عباس المتقدم فكلام غير مناسب لمعنى الآية ، لأنها في المطيقين لا فيمن لا يستطيع أن يصوم كما قال ، وكذلك ما رواه عنه أبو داود أنها أثبتت للحبلى والمرضع ، فإنه يدل على أنها منسوخة فيما عداهما ، فعلى كل حال ليس في الآية دليل على وجوب الإطعام على من ترك الصوم وهو لا يطيقه وهو محل النزاع ، وإذا لم يوجد دليل في كتاب الله ولا في سنة رسوله فليس في غيرهما أيضاً ما يدل على ذلك فالحق عدم وجوب الإطعام ، وقد ذهب إليه جماعة من السف منهم : مالك وأبو ثور وداود ، وكذا لا فدية على من حال عليه رمضان وعليه رمضان أبو بعضه ولم يقضه ، لأنه لم يثبت في ذلك شئ صح رفعه ، وغاية ما فيه آثار عن جماعة من الصحابة من أقوالهم وليس بحجة على أحد ولا تعبد الله بها أحداً من عباده ، والبراءة الأصلية مستصحبة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح ، وقد ذهب إلى هذا النخعي وأبو حنيفة وأصحابه . وأما التفريق في قضاء رمضان فقد أخرج الدار قطني من حديث ابن عمر أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سئل عن قضاء رمضان فقال : إن شاء فرقه وإن شاء تابعه وفي إسناده سفيان بن بشر وقد ضعفه بعضهم ، وقال ابن الجوزي ما علمنا أحداً طعن فيه ثم صحح الحديث ، ويؤيد ما دل عليه هذا الحديث من التخيير قوله تعالى فعدة من أيام أخر وهذه العدة تصدق على ما كان مجتمعاً ومتفرقاً لأنه يحصل من كل واحد منهما عدة والبراءة الأصلية قاضية بعدم التعبد بما هو أشق ما يصدق عليه معنى الآية دون ما هو أخف . وأما ما يروى من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال : من كان عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه كما أخرجه الدار قطني من حديث أبي هريرة ففي إسناده عبد الرحمن بن إبراهيم القاص وقد ضعفه جماعة من الأئمة ، وقال البيهقي لا يصح ، وأنكره أبو حاتم على عبد الرحمن ، وأما ابن القطان فقال : لم يأت من ضعفه بحجة انتهى . ولكنه مع ذلك لا ينتهض للنقل عن مجرد البراءة الأصلية فضلاً عما عضدها *
يتبع............