كتاب الطهارة
باب في بيان أن الماء طاهر ومطهر
هذا الباب قد اشتمل على مسائل :
الأولى الماء طاهر ومطهر ولا خلاف في ذلك ، وقد نطق بذلك الكتاب والسنة ، وكما دل الدليل على كونه طاهراً مطهراً وقام على ذلك الإجماع ، كذلك يدل على ذلك الأصل ، والظاهر ، والبراءة ، فإن أصل عنصر الماء طاهر مطهر بلا نزاع ، وكذلك الظهور يفيد ذلك ، والبراءة الأصلية عن مخالطة النجاسة له مستصحبة .
لا يخرجه عن الوصفين أي عن وصف كونه طاهراً وعن وصفه كونه مطهراً إلا ماغير ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات .
هذه المسألة الثانية من مسائل الباب ، وهي أنه لا يخرج الماء عن الوصفين إلا ماغير أحد أوصافه الثلاثة من النجاسات لا من غيرها ، وهذا المذهب هو أرجح المذاهب وأقواها .
والدليل عليه ما أخرجه أحمد وصححه وأبو داود والترمذي وحسنه ، والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي والحاكم ، وصححه أيضاً يحيى بن معين وابن حزم من حديث أبي سعيد قال : قيل يارسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الماء طهور لا ينجسه شئ وقد أعله ابن القطان بإختلاف الرواة في إسم الراوي له عن أبي سعيد وإسم أبيه وليس ذلك بعلة ، وقد إختلف في أسماء كثير من الصحابة والتابعين على أقوال ، ولم يكن ذلك موجباً للجهالة على أن ابن القطان نفسه قال بعد ذلك الإعلال : وله طريق أحسن من هذه ، ثم ساقها عن أبي سعيد وقد قامت الحجة بتصحيح من صححه من أولئك الأئمة .
وله شواهد منها حديث سهل بن سعد عند الدارقطني ، ومن حديث ابن عباس عند أحمد وابن خريمة وابن حبان ، ومن حديث عائشة عند الطبراني في الأوسط وأبي يعلي والبزار وابن السكن كلها بنحو حديث أبي سعيد ، وأخرجه بزيادة الإستثناء الدارقطني من حديث ثوبان بلفظ الماء طهور لاينجسه شئ إلا ماغلب على ريحه أو لونه أو طعمه وأخرجه أيضاً مع الزيادة ابن ماجه والطبراني من حديث أبي أمامة بلفظ أن الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو لونه أو طعمه بنجاسة تحدث فيه وفي إسنادهما من لا يحتج به ، وقد إتفق أهل الحديث على ضعف هذه الزيادة ، لكنه قد وقع الإجماع على مضمونها كما نقله ابن المنذر وابن الملقن في البدر المنير والمهدي في البحر ، فمن كان يقول بحجيه الإجماع كان الدليل عنده على ما أفادته تلك الزيادة هو الإجماع ، ومن كان لا يقول بحجية الإجماع كان هذا الإجماع مفيداً لصحة تلك الزيادة ، لكونها قد صارت مما أجمع على معناها وتلقى بالقبول ، فالإستدلال بها لا بالإجماع * وعن الثاني ما أخرجه عن إسم الماء المطلق من المغيرات الطاهرة *
هذه المسألة الثالثة من مسائل الباب ، ووجه ذلك أن الماء الذي شرع لنا التطهير به هو الماء المطلق الذي لم يضف إلى شئ من الأمور التي تخالطه ، فإن خالطة شئ أوجب إضافته إليه ، كما يقال ماء ورد ونحوه ، فليس هذا الماء المقيد بنسبته إلى الورد مثلاً هو الماء المطلق الموصوف بأنه طهور في الكتاب العزيز بقول سبحانه : ماء طهوراً وفي السنة المطهرة بقول صلى الله عليه وسلم الماء طهور فخرج بذلك عن كونه مطهراً ، ولم يخرج به عن كونه طاهراً ، لأن الفرض أن الذي خالطه طاهر ، وإجتماع الطاهرين لا يوجب خروجهما عن الوصف الذي كان مستحقاً لكل واحد منهما قبل الإجتماع *
قال في حجة الله البالغة : وأما الوضوء من الماء المقيد الذي لا يطلق عليه إسم الماء بلا قيد فأمر تدفعه الملة بادي الرأي ، نعم إزالة الخبث به محتمل بل هو الراجح *
وقد أطال القوم في فروع موت الحيوان في البئر ، والعشر في العشر ، والماء الجاري وليس في كل ذلك حديث عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم البتة ، وأما الآثار المنقولة عن الصحابة والتابعين كأثر ابن الزبير في الزنجي ، وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في الفأرة ، والنخعي والشعبي في نحو السنور ، فليست مما يشهد له المحدثون بالصحة ، ولا مما اتفق عليه جمهور أهل القرون الأولى ، وعلى تقدير صحتها يمكن أن يكون ذلك تطييباً للقلوب وتنظيفاً للماء ، لا من جهة الوجوب الشرعي ، كما ذكر في كتب المالكية ودون نفي هذا الإحتمال خرط القتاد .
وبالجملة : فليس في هذا الباب شئ يعتد به ويجب العمل عليه . وحديث القلتين أثبت من ذلك كله بغير شبهة ، ومن المحال أن يكون الله تعالى شرع في هذه المسائل لعباده شيئاً زيادة على ما لا ينفكون عنه من الإرتفاقات ، وهي مما يكثر وقوعه وتعم به البلوى ، ثم لا ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم نصاً جلياً ، ولا يستفيض في الصحابة ومن بعدهم ، ولا حديث واحد فيه والله أعلم إنتهى . قلت وقد أطال الحافظ ابن حجر رح تعالى في تخريج حديث القلتين والكلام عليه جرحاً وتعديلاً ، لفظاً ومعنى في كتابه تلخيص الحبير في تخريج أخبار الرافعي الكبير اطالة حسنة فليرجع إليه .
ولا فرق بين قليل وكثير هذه المسألة الرابعة من مسائل الباب ، والمراد بالقلة والكثرة ما وقع من الإختلاف في ذلك بين أهل العلم بعد إجماعهم على أن ماغيرت النجاسة أحد أوصافه الثلاثة ليس بطاهر ، فقيل : أن الكثير مابلغ قلتين والقليل ما كان دونهما ، لما أخرجه أحمد وأهل السنن والشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي ، وصححه الحاكم على شرط الشيخين من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب فقال : إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث وفي لفظ أحمد لم ينجسه شئ وفي لفظ لأبي داود لم ينجس وأخرجه بهذا اللفظ ابن حبان والحاكم ، وقال ابن منده : إسناد حديث القلتين على شرط مسلم إنتهى . ولكنه حديث قد وقع الاضطراب في إسناده ومتنه كما هو مبين في مواطنه ، وقد أجاب من أجاب عن دعوى الاضطراب ، وقد دل هذا الحديث على أن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث ، وإذا كان دون القلتين فقد يحمل الخبث ، ولكنه كما قيد حديث الماء طهور لا ينجسه شئ بتلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها كذلك يقيد حديث القلتين بها فيقال : إنه لا يحمل الخبث إذا بلغ قلتين في حال من الأحوال إلا في حال تغير بعض أوصافه بالنجاسة ، فإنه حينئذ قد حمل الخبث بالمشاهدة وضرورة الحس ، فلا منافاة بين حديث القلتين وبين تلك الزيادة المجمع عليها ، وأما ما كان دون القلتين فهو مظنة لحمل الخبث وليس فيه أنه يحمل الخبث قطعاً وبتاً ، ولا أن ما يحمله من الخبث يخرجه عن الطهورية لأن الخبث المخرج عن الطهورية هو خبث خاص ، وهو الموجب لتغير أحد أوصافه أو كلها لا الخبث الذي لم يغير .
وحاصله : أن ما دل عليه مفهوم حديث القلتين من أن ما دونهما قد يحمل الخبث لا يستفاد منه إلا أن ذلك المقدار إذا وقعت فيه نجاسة قد يحملها ، وأما أنه يصير نجساً خارجاً عن كونه طاهراً فليس في هذا المفهوم ما يفيد ذلك ، ولا ملازمة بين حمل الخبث والنجاسة المخرجة عن الطهورية لأن الشارع قد نفى النجاسة عن مطلق الماء ، كما في حديث أبي سعيد المتقدم وما شهد له ، ونفاها عن الماء المقيد بالقلتين ! كما في حديث عبد الله بن عمر المتقدم أيضاً ، وكان النفي بلفظ هو أعم صيغ العام فقال في الأول : لا ينجسه شئ وقال في الثاني أيضاً كما في تلك الرواية : لم ينجسه شئ فأفاد ذلك أن كل ماء يوجد على وجه الأرض طاهر ، إلا ما ورد فيه التصريح بما يخصص هذا العام ، مصرحاً بأنه يصير الماء نجساً كما وقع في تلك الزيادة التي وقع الإجماع عليها فإنها وردت بصيغة الإستثناء من ذلك الحديث فكانت من المخصصات المتصلة بالنسبة إلى حديث أبي سعيد ، ومن المخصصات المنفصلة بالنسبة إلى حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما على القول الراجح في الأصول وهو : أنه يبني العام على الخاص مطلقاً ، فتقرر بهذا أنه لامنافاة بين مفهوم حديث القلتين وبين سائر الأحاديث ، بل يقال فيه : إن مادون القلتين إن حمل الخبث حملاً استلزم تغير ريح الماء أو لونه أو طعمه فهذا هو الأمر الموجب للنجاسة والخروج عن الطهورية ، وإن حمله حملاً لا يغير أحد تلك الأوصاف فليس هذا الحمل مستلزماً للنجاسة *
وقد ذهب إلى تقدير الماء القليل بما دون القلتين والكثير بهما الشافعي رح وأصحابه رحمهم الله ، وذهب إلى تقدير القليل بما يظن إستعمال النجاسة باستعماله والكثير بما لا يظن إستعمال النجاسة باستعماله ابن عمر ومجاهد ، وقد روي أيضاً عن الشافعية رحمهم الله والحنفية رحمهم الله وأحمد بن حنبل رح . ولا أدري هل تصح هذه الرواية أم لا ، فمذاهب هؤلاء مدونة في كتب أتباعهم من أراد الوقوف عليها راجعها . واحتج أهل هذا المذهب بمثل قوله تعالى : والرجز فاهجر ، وبخبر الإستيقاظ ، وخبر الولوغ ، وأحاديث النهي عن البول في الماء الدائم و هى جميعها في الصحيح ، ولكنها لاتدل على المطلوب ، ولو فرضنا أن لشئ منها دلالة بوجه ما كان ما أفادته تلك الدلالة مقيداً بما تقدم . لأن التعبد إنما هو بالظنون الواقعة على الوجه المطابق للشرع ، على أنه لا يبعد أن يقال : إن العاقل لا يظن إستعمال النجاسة باستعمال الماء إلا إذا خالطت الماء بجرمها أو بريحها أو بلونها أو بطعمها مخالطة ظاهرة توجب ذلك الظن ، ولا شك ولا ريب أن ما كان من الماء على هذه الصفة ينجس ، لأن المخالطة إن كانت بالجرم فالمتوضىء مستعمل لعين النجاسة ، وإن كانت المخالطة بالريح أو اللون أو الطعم فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه *
والحاصل : أنهم إن أرادوا بقولهم إن ظن إستعمال النجاسة بإستعماله فهو القليل وإن لم يظن فهو الكثير ما هو أعم من عين النجاسة وريحها . ولونها وطعمها ، فلا مخالفة بين هذا المذهب وذلك المذهب الذي رجحناه إلا من جهة أن هؤلاء اعتبروا المظنة وأهل المذهب الأول اعتبروا المئنة ، ولكن لا يخفى أن المظنة إذا كانت هي الصادرة من غير أهل الوسوسة والشكوك ، فهي لا تكاد تخالف المئنة في مثل هذا الموضع ، وإن أرادوا إستعمال العين فقط أو عدم استعمال العين فقط ، فهو مذهب مستقل غير ذلك المذهب ، ولكن الظاهر أنهم أرادوا المعنى الأول ، ويدل على ذلك أنه قد وقع الإجماع على أن ماغير لون الماء ، أو ريحه ، أو طعمه من النجاسات أوجب تنجيسه كما تقدم تقريره ، فأهل هذا المذهب من جملة القائلين بذلك لدخولهم في الإجماع ، بل هو مصرح لحكاية الإجماع في البحر ، فتقرر بهذا أنهم يريدون المعنى الأول ، أعني الأعم من العين والريح واللون والطعم تبوتاً وإنتقاء ، وحينئذ فلا مخالفة بين المذهبين ، لأن أهل المذهب الأول لا يخالفون في أن إستعمال المطهر لعين النجاسة مع الماء موجب لخروج الماء عن الطهورية خروجاً زائداً على خروجه عند إستعمال مافيه مجرد الريح أو اللون أو الطعم ، فتأمل هذا فهو مفيد بل مجموع ما اشتمل عليه هذا البحث في الجمع بين المذاهب المختلفة في الماء ، وبين الأدلة الدالة عليها على هذه الصورة التي لخصتها مما لم أقف عليه لأحد من أهل العلم ، وهذه المسألة هي من المضايق التي يتعثر في ساحاتها كل محقق ويتبلد عند تشعب طرائقها كل مدقق، وقد حررها الماتن في سائر مؤلفاته تحريرات مختلفة لهذه العلة وأطال الكلام عليها في طيب النشر في المسائل العشر *
وقد استدل بعض أهل العلم بمثل حديث إستفت قلبك وإن أفتاك المفتون ومثل حديث دع مايريبك إلى ما لا يريبك ولا يستفاد منهما . إلا أن التورع عند الظن من الإقدام أولى ، وأهل هذا المذهب يوجبون العمل بذلك الظن حتماً وجزماً . وقد عرفت أن أدلة المذهب الأولى على الوجه الذي لخصناه تدل على المذهب الثاني ، فأبعاد النجعة إلى مثل حديث إستفت قلبك و دع مايريبك ليس كما ينبغي . فإن قيل : إنه قصد الإستدلال على مجر العمل بالظن من غير نظر إلى هذه المسألة فيقال : أدلة العمل بالظن في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأكثر منها أدلة النهي عن العمل به ، وهكذا التعويل على حديث الولوغ والإستيقاظ ونحو ذلك لا يفيد . وقد حكي في تحديد الماء الكثير أقوال منها : أن الكثير هو المستبحر ، وقيل : ما إذا حرك طرفه لم يتحرك الطرف الآخر ، وقيل : ماكان مساحة مكانه كذا ، وقيل : غير ذلك . وهذه الأقول ليس عليها أثارة من علم بل هي خارجة عن باب الرواية المقبولة والدراية المعقولة .
وما فوق القلتين ومادونهما قدر الشافعي الماء الذي لا ينجس بوقوع النجاسة ما لم يتغير بالقلتين وقدرهما بخمس قرب ، وفسرها أصحابه بخمسمائة رطل . وقدره الحنفية بالغدير الكبير الذي لا يتحرك جانب منه بتحريك الآخر ، والعشر في العشر كذا في المسوى شرح الموطأ . وقال في حجة الله البالغة : ومن لم يقل بالقلتين إضطر إلى مثلهما في ضبط الماء الكثير ، كالمالكية ، أو الرخصة في آبار الفلوات من نحو أبعار الإبل انتهى . ويدفع ذلك ما مر من عدم الفرق بين ما دون القلتين وما فوقهما مع الدليل عليه . وإن شئت زيادة التفصيل فعليك بالفتح الرباني في فتاوى الشوكاني ففيها ما يشفي العليل ويسقي الغليل .
ومتحرك وساكن وجه ذلك أن سكونه وإن كان قد ورد النهي عن التطهير به حاله ، فإن ذلك لا يخرجه عن كونه طهوراً لأنه يعود إلى وصف كونه طهوراً بمجرد تحركه . وقد دلت الأحاديث على أنه لا يجوز التطهير بالماء الساكن مادام ساكناً ، كحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا يغتسلن أحدكم في الماء الدائم وهو جنب فقالوا يا أبا هريرة : كيف يفعل قال : يتناوله تناولاً وفي لفظ لأحمد وأبي داود لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من جنابة وفي لفظ للبخاري لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه وفي لفظ للترمذي ثم يتوضأ منه وغير هذه الرويات التي يفيد مجموعها النهي عن البول في الماء الدائم على انفراده ، والنهي عن الإغتسال فيه على إنفراده ، والنهي عن مجموع الأمرين . ولا يصح أن يقال : إن روايتي الإنفراد مقيدتان بالإجتماع ، لأن البول في الماء على إنفراده لا يجوز ، فأفاد هذا أن الإغتسال والوضوء في الماء الدائم من دون بول فيه غير جائز ، فمن لم يجد إلا ماء ساكناً وأراد أن يتطهر منه فعليه أن يحتال قبل ذلك بأن يحركه حتى يخرج عن وصف كونه ساكناً ثم يتوضأ منه ، وأما أبو هريرة فقد حمل النهي على الإنغماس في الماء الدائم ، ولهذا لما سئل كيف يفعل قال : يتناوله تناولاً ، ولكنه لا يتم ذلك في الوضوء ، فإنه لا انغماس فيه بل هو يتناوله تناولاً من الإبتداء فالأولى تحريك الماء قبل الشروع في الطهارة ثم يتطهر به . وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ما دلت عليه هذه الروايات فلم يفرقوا بين المتحرك والساكن ومنهم من قال : إن هذه الروايات محمولة على الكراهة فقط ، ولا وجه لذلك ، وقد قيل إن المستبحر مخصوص من هذا بالإجماع ، والراجح أن الماء الساكن لا يحل التطهر به مادام ساكناً ، فإذا تحرك عاد له وصفه الأصلي وهو كونه مطهراً ، وهذه هي المسألة الخامسة من مسائل الباب .
ومستعمل وغير مستعمل هذه المسألة السادسة من مسائل الباب ، وقد وقع الإختلاف بين أهل العلم في الماء المستعمل لعبادة من العبادات هل يخرج بذلك عن كونه مطهراً أم لا ؟ فحكي عن أحمد بن حنبل والليث والأوزاعي والشافعي ومالك في إحدى الروايتين عنهما وأبي حنيفة في رواية عنه ، أن الماء المستعمل غير مطهر ، واستدلوا بما تقدم من حديث النهي عن الإغتسال في الماء الدائم ولا دلالة له على ذلك ، لأن علة النهي عن التطهير به ليست كون ذلك الماء مستعملاً بل كونه ساكناً وعلة السكون لا ملازمة بينها وبين الإستعمال ، واحتجوا أيضاً بما ورد من النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة ولاتنحصر علة ذلك في الإستعمال كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى ، فلا يتم الإستدلال بذلك لإحتماله ولو كانت العلة الإستعمال لم يختص النهي بمنع الرجل من الوضوء بفضل المرأة والعكس ، بل كان النهي سيقع من الشارع لكل أحد عن كل فضل . ومن جملة ما استدلوا به : أن السلف كانوا يكملون الطهارة بالتيمم عند قلة الماء لا بماء ساقط منه ، وهذه حجة ساقطة لا ينبغي التعويل على مثلها في إثبات الأحكام الشرعية فعلى هذا المستدل أن يوضح هل كان هذا التكميل يفعله جميع السلف أو بعضهم والأول باطل والثاني لا يدري من هو فليبين لنا من هو على أنه لا حجة إلا الإجماع عند من يحتج بالإجماع ، وقد استدلوا بأدلة هي أجنبية عن محل النزاع مثل : حديث غسل اليد ثلاثاً بعد الإستقياظ قبل إدخالها الإناء ونحوه ، فالحق أن المستعمل طاهر ومطهر عملاً بالأصل وبالأدلة الدالة على أن الماء طهور ، وقد ذهب إلى هذا جماعة من السلف والخلف ، ونسبه ابن حزم إلى عطاء وسفيان الثوري وأبي ثور وجميع أهل الظاهر ، ونقله غيره عن الحسن البصري والزهري والنخعي ومالك والشافعي وأبي حنيفة في إحداى الرويات عن الثلاثة المتأخرين ، والحق أن الماء لا يخرج عن كونه طهوراً بمجرد إستعماله للطهارة إلا أن يتغير بذلك ريحه أو لونه أو طعمه ، وقد كان الصحابة يكادون يقتتلون على ما تساقط من وضوئه صلى الله عليه وسلم فيأخذونه ويتبركون به ، والتبرك به يكون بغسل بعض أعضاء الوضوء كما يكون بغير ذلك ، والحاصل :
والحاصل : أن إخراج ما جعله الماء طهوراً عن الطهورية لا يكون إلا بدليل *
فصل النجاسات
والنجاسات جمع نجاسة ، وهي كل شئ يستقذره أهل الطبائع السليمة ويتحفظون عنه ، ويغسلون الثياب إذا أصابها كالعذرة والبول .
هي غائط الإنسان مطلقاً وبوله بالأدلة الصحيحة المفيدة للقطع بذلك بل نجاستهما من باب الضرورة الدينية كما لا يخفى على من له إشتغال بالأدلة الشرعية ، وبما كان عليه الأمر في عصر النبوة ، ولا يقدح في ذلك التخفيف في تطهيرهما في بعض الأحوال *
أما الغائط فكما في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا وطىء أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور وفي لفظ إذا وطىء الأذى بخفيه فطهورهما التراب رواهما أبو داود رح وابن السكن والحاكم والبيهقي ، وقد اختلف فيه على الأوزاعي ، وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم وابن حبان من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما وقد إختلف في وصله وإرساله ، ورجح أبو حاتم في العلل الموصول . وأخرج أهل السنن عن أم سلمة مرفوعاً بلفظ يطهره ما بعده وعن أنس عند البيهقي بسند ضعيف بنحوه ، وكذلك عن إمرأة من بني عبدالأشهل عند البيهقي أيضاً. فإن جعل التراب مع المسح مطهراً لذلك لا يخرجه عن كونه نجساً بالضرورة . إذ إختلاف وجه التطهير لا يخرج النجس عن كونه نجساً ، وأما التخفيف في تطهير البول فكما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يراق على بول الأعرابي ذنوب من ماء وهو في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما *
وأما ما عدا غائط الآدمي وبوله من الأبوال والأزبال فلم يحصل الإتفاق على شئ في شأنها والأدلة مختلفة ، فورد في بعضها ما يدل على طهارته كأبوال الإبل . فإن ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين بأن يشربوا من أبوال الإبل ، ومن ذلك حديث لا بأس ببول ما يؤكل لحمه وهو حديث ضعيف أخرجه الدارقطني من حديث جابر رضي الله عنه والبراء رضي الله عنه ، وفي إسناده عمرو بن الحصين العقيلي وهو ضعيف جداً لا تقوم بمثله الحجة ، وورد ما يدل على نجاسة الروث ما أخرجه البخاري وغيره أنه قال صلى الله عليه وسلم في الروثة : إنها ركس والركس النجس ، وقد نقل التيمي أن الروث مختص بما يكون في الخيل والبغال والحمير ولكنه زاد ابن خزيمة في رواية إنها ركس إنها روثة حمار *
ومعظم ما استدل به القائلون بالتعميم في النجاسة لا ينطبق على غير الخارج من الآدمي ، وحديث الروثة لا يستلزم التعميم ، وحديث عمار قد أطبق من رواه على أنه من الضعف بمكان يسقط به عن درجة الإعتبار لأنه من رواية ثابت بن حماد بن علي بن زيد بن جدعان ، والأول مجمع على تركه ، والثاني مجمع على ضعفه . فلا ينتهض بمثله حجة على التعميم . واحتجوا بإذنه صلى الله عليه وسلم بالصلاة في مرابض الغنم ، وبإذنه بشرب أبوال الإبل وهما صحيحان ، ولاحكم للمعارضة بنهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل لأن النهي معلل بأنها ربما تؤذي المصلي فلا يستلزم ذلك عدم طهارة أزبالها وأبوالها ، كما أن تعليل الصلاة في مرابض الغنم بأنها بركة لا يستلزم أن الصلاة إنما كانت لأجل كونها بركة فإن مثل ذلك لا يسوغ مباشرة ماليس بطاهر *
فالحق الحقيق بالقبول الحكم بنجاسة ماثبتت نجاسته بالضرورة الدينية وهو بول الآدمي وغائطه ، وأما ماعداهما فإن ورد فيه ما يدل على نجاسته كالروثة وجب الحكم بذلك من دون الحاق ، وإن لم يرد فالبراءة الأصلية كافية في نفي التعبد بكون الشئ نجساً من دون دليل ، فإن الأصل في جميع الأشياء الطهارة ، والحكم بنجاستها حكم تكليفي تعم به البلوى ولا يحل إلا بعد قيام الحجة . قال الماتن رح تعالى : ولا يخفى عليك أن الأصل في كل شئ أنه ظاهر ، لأن القول بنجاسته يستلزم تعبد العباد بحكم من الأحكام والأصل عدم ذلك ، والبراءة قاضية بأنه لا تكليف بالمحتمل حتى يثبت ثبوتاً ينقل عن ذلك ، وليس من أثبت الأحكام المنسوبة إلى الشرع بدون دليل بأقل إثماً ممن أبطل ما قد ثبت دليله من الأحكام ، فالكل أما من التقول على الله تعالى بما لم يقل ، أو من إبطال ما قد شرعه لعباده بلا حجة .
إلا الذكر الرضيع لحديث يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام أخرجه أبو داود رح تعالى والنسائى رح تعالى وابن ماجة والبزار وابن خزيمة من حديث أبي السمح خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصححه الحاكم . وأخرج أحمد والترمذي وحسنه من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بول الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية يغسل وأخرجه أيضاً ابن ماجه وأبو داود بإسناد صحيح عن علي موقوفاً ، وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن خريمة وابن حبان والطبراني من حديث أم الفضل لبابة بنت الحارث قالت : بال الحسين بن علي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أعطني ثوبك والبس ثوباً غيره حتى أغسله فقال : إنما ينضح من بول الذكر ويغسل من بول الأنثى وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله وفي صحيح البخاري من حديث عائشة قالت : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي يحنكه فبال عليه فأتبعه الماء وفي صحيح مسلم عنها قالت : كان يؤتي بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم فأتي بصبي فبال عليه فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله فهذا تصريح بأنه لم يغسله فيكون إتباعه الماء مجرد النضح كما وقع في الحديثين الآخرين ، أو مجرد صب الماء عليه من دون غسل ، وبالجملة : فالتصريح منه صلى الله عليه وسلم بالقول بما هو الواجب في ذلك هو الأولى بالإتباع لكونه كلاماً مع أمته فلا يعارضه ما وقع من فعله على فرض أنه مخالف للقول .
وقد ذهب إلى الإكتفاء بالنضح في بول الغلام لا الجارية جماعة منهم علي وأم سلمة والثوري والأوزاعي والنخعي وداود وابن وهب وعطاء والحسن الزهري وأحمد وإسحق ومالك في رواية وهذا هو الحق الذي لامحيص عنه ، وذهب بعض أهل العلم - وقد حكي عن مالك والشافعي والأوزاعي - إلى أنه يكفي النضح فيهما وهذا فيه مخالفة لما وقع في هذه الأحاديث الصحيحة من التفرقة بين الغلام والجارية . وذهب الحنفية رحمهم الله وسائر الكوفيين إلى أنهما سواء في وجوب الغسل ، وهذا المذهب كالذي قبله في مخالفة الأدلة ، وقد إستدل أهل هذا المذهب الثالث بالأدلة الواردة في نجاسة البول على العموم ، ولا يخفاك أنها مخصصة بالأدلة الخاصة المصرحة بالفرق بين بول الجارية والغلام ، وأما ما قيل من قياس بول الغلام على بول الجارية فلا يخفاك أنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد الإعتبار ، وقد شدد ابن حزم فقال : إنه يرش من بول الذكر أي ذكر كان ، وهو إهمال للقيد المذكور سابقاً بلفظ بول الغلام الرضيع ينضح ، والواجب حمل المطلق على المقيد .
قال في الحجة : قد أخذت بالحديث أهل المدينة وإبراهيم النخعي وأضجع فيه القول محمد فلا تغتر بالمشهور بين الناس . قلت : الشافعي رح تعالى : ينضح من بول الغلام ما لم يطعم ، ويغسل من بول الجارية . فسره البغوي بأن بول الصبي نجس غير أنه يكتفي فيه بالرش وهو أن ينضح الماء عليه بحيث يصل إلى جميعه فيطهر من غير مرس ولا دلك ، وقال أبو حنيفة رح تعالى : يغسل منهما سواء ، ويتجه أن يقال من جانب أبي حنيفة رح تعالى أن المراد بالنضح الغسل الخفيف وبالغسل المرس والدلك . وأصل المسألة أن التطهير إنما يكون بإزالة عين النجاسة وأثرها ، وبول الجارية أغلظ وأنتن فإحتيج فيه إلى زيادة المرس . كذا في المسوى *
وأقول : أحاديث التخصيص هنها صحيحة لا شك في ذلك ولا ريب . فما الذي دعاهم إلى الوقوع في مضيق التأويل المتعسف الذي لا يسوغ ارتكاب مثله مع وجود السعة ، وهذا كلام عاطل الجيد عن الفائدة بمرة ، لأن هذا المعنى قد استفيد من العام . ثم إهدار لفائدة المغايرة بالمرة ، وحكم على كلام من أوتي جوامع الكلم وكان أفصح العرب بما يلحقه بكلام من هو من العي بمنزلة توقعه في الكلام القاصر عن رتبة الفصاحة والبلاغة . وقد ذكر في النهاية ما يفيد أن النضح يأتي بمعنى الغسل ، قلت : قد يرد في مثل ذلك نادراً إذا اقتضاه المقام ، وههنا وقع مقابلاً للغسل فكيف يصح تفسيره به ، وقد أطبق أئمة اللغة أن النضح هو الرش ، فيجب حمله على ذلك إذا لم تقم قرينة على إرادة غيره ، فكيف إذا كان الكلام لا يصح إلا بالحمل على ذلك المعنى الأعم الأغلب وإلا كان الكلام حشواً ، وإن كان إستعظام قائل قد قال بوجوب غسل البول ، فليس أحد أعظم منزلة ولا أكبر قدراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأقل الأحوال أن يجعل لكلامه مزية على غيره من علماء أمته ، فيكون كلامهم مردوداً إلى كلامه ، وليت أن المشغوفين بمحبة مذاهب الاسلاف جعلوه كأسلافهم ، فسلكوا فيما بين كلامه وكلامهم طريقة الأنصاف ، ولكنهم في كثير من المواطن يجعلون الحظ لأسلافهم ، فيردون كلامه صلى الله عليه وسلم إلى كلامهم ،فإن وافقهم فيها ونعمت ، وان لم يوافقهم فالقول ما قالت حذام فإن أنكرت هذا فهات ابن لي ما الذي اقتضى هذه التأويلات المتعسفة ورد أحاديث التخصيص الصحيحة مع تسليمهم ان الخاص مقدم على العام ، وإنه يبني العام على الخاص وهذا مشتهر في الأصول وإشتهار النهار .
ولعاب كلب قد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً وثبت أيضاً عندهما وغيرهما مثله في حديث عبد الله بن مغفل فدل ذلك على نجاسة لعاب الكلب وهو المطلوب هنا ، والكلام في الخلاف بين من عمل بظاهر هذه الأدلة ومن اكتفى بالتثليث معروف ، وليس ذلك مما يقدح في كونه نجساً لأن محل الدليل على النجاسة هو إيجاب الغسل ، وهكذا لا يتعلق بما نحن بصدده زيادة التغليظ بالتتريب ، كما وقع في أحاديث الباب في الصحيحين وغيرهما ، فإنه ليس المقصود ههنا إلا اثبات كون اللعاب نجساً ، لا بيان كيفية تطهيره فلذلك موضع آخر .
والحاصل : أن الحق ماقضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التسبيع والتتريب وليس من شرط التعبد الإطلاع على علل الأحكام التي تعبدنا الله بها على ما هو الراجح ، وقد صح لنا الأمر منه صلى الله عليه وسلم بالغسل على الصفة المذكورة بالأحاديث الصحيحة ، ولم نجد عنه ما يدلنا على خلاف هذا الحكم ، فلا يحل تحويل الشرع المتقرر بأقوال علماء الأمة سواء كان القول المخالف منسوباً إلى جميعهم أو إلى بعضهم ، وقد حفظ الله هذه السنة بأقوال جماعة من علماء الأمة كما هو معروف في كتب الخلاف والفقه وشروح السنة . ومن أغرب ما يراه من الهمه الله رشده وحبب إليه الأنصاف ما يقع في كثير من المواطن من جماعة من ذلك عن الشريعة بمعزل والميل عن الحكم الثابت بشرع أوضح من الشمس من دون سبب يقتضي ذلك كما فيما نحن بصدده وفيما سلف في بول الصبي وأشباه هذا ونظائره لا تحصى والله المستعان .
وروث الدليل على نجاسته ما تقدمت الإشارة إليه من قوله صلى الله عليه وسلم في الروثة أنها ركس والركس في اللغة النجس ، فالروثة نجس وهو المطلوب ، وقد قدمنا كلام التيمي في تخصيص ذلك بروث الخيل والبغال والحمير .
ودم حيض الدليل على ذلك ما ثبت عند أحمد وأبي داود والترمذي من حديث خولة بنت يسار قالت : يارسول الله ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه ، قال : فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه ، قالت : يارسول الله إن لم يخرج أثره قال : يكفيك الماء ولا يضرك أثره وفي إسناده ابن لهيعة . وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان من حديث أم قيس بنت محصن مرفوعاً بلفظ : حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر قال ابن القطان : إسناده في غاية الصحة . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت : جاءت إمرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إحدانا يصيب ثوبها من دم حيض فكيف تصنع ؟ قال : تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه فالأمر بغسل دم الحيض وحكه بضلع يفيد ثبوت نجاسته وإن اختلف وجه تطهيره فذلك لا يخرجه عن كونه نجساً، وأما سائر الدماء فالأدلة فيها مختلفة مضطربة ، والبراءة الأصلية مستصحبة حتى يأتي الدليل الخالص عن المعارضة الراجحة أو المساوية . ولو قام الدليل على رجوع الضمير في قوله تعالى : فإنه رجس إلى جميع ما تقدم في الآية الكريمة من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير لكان ذلك لكان ذلك مفيداً لنجاسة الدم المسفوح والميتة ولكنه لم يرد ما يفيد ذلك بل النزاع كائن في رجوعه إلى الكل أو إلى الأقرب والظاهر رجوعه إلى الأقرب وهو لحم الخنزير لإفراد الضمير ، ولهذا جزمنا ههنا بنجاسة لحم الخنزير دون الميتة والدم الذي ليس بدم حيض ولا سيما وقد ورد في الميتة ما يفيد أنه لا يحرم منها إلا أكلها كما ثبت في الصحيح بلفظ إنما حرم من الميتة أكلها ومن رام تحقيق الكلام في الخلاف الواقع في مثل هذا الضمير المذكور في الآية فليرجع إلى ما ذكره أهل الأصول في الكلام على القيد الواقع بعد جملة مشتملة على أمور متعددة .
ولحم الخنزير الدليل على نجاسته ما قدمنا قريباً من الآية الكريمة .
وفيما عدا ذلك خلاف وأما المني فاحتجوا على نجاسته بأمور : الأول حديث عمار وقد سلف عدم صلاحيته للإحتجاج . والثاني بما ورد عن جماعة من الصحابة وذلك لا تقوم به حجة لأنه لم يكن إجماعاً ولا مرفوعاً . والثالث بما ورد في المذي من الأمر بغسل الفرج والإنثيين ، ويجاب عنه أنه إثبات لنجاسة المني بقياس لأنهما متغايران ، على أنه يمكن أن يكون التغليظ في المذي إما لكونه يخرج غالباً مختلطاً بالبول ، أو لأنه ليس بأصل للنسل ، ويلزم أنه يطهر بالنضح لما ورد عند أبي داود والترمذي وصححه من حديث سهل بن حنيف بلفظ يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء فتنضح به حيثما ترى أنه أصاب من ثوبك وأما الجواب عن حديث أمره صلى الله عليه وسلم لعائشة بفرك المني بأن المراد به الفرك قبل الغسل لا مجرد الفرك فقط ، فهذا خلاف ما تقتضيه المقابلة للفرك بالغسل ، وكان أقرب من هذا أن يجاب بأن الفرك لم يكن بأمره صلى الله عليه وسلم إنما قالت عائشة : كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في كتب الحديث . والأمر الرابع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل موضع المني من ثوبه . ويجاب عنه بأن هذا فعل لا يصلح لإثبات النجاسة المستلزم لوجوب الإزالة مع إحتمال أن يكون غسله تقذراً لما فيه من مخالفة النظافة ، وأما فرك عائشة لمنيه صلى الله عليه وسلم من ثوبه حال صلاته بأنه لم يعلم بذلك ، فالجواب عنه بأنه لو كان نجساً لما أقره الله على ذلك ، كما ثبت في حديث خلع النعل بعد دخوله في الصلاة لإخبار جبريل له بذلك ، وقد قدمت لك أن الحكم بكون الشئ نجساً لا يقبل إلا بدليل تقوم به الحجة غير معارض بما هو أنهض أو مساو ، لأن الحكم بكون الشئ نجساً يستلزم تعبد العباد بحكم من أحكام الشرع تعم به البلوى وقد أوردت في مسك الختام شرح بلوغ المرام حجج المختلفين ورجحت هناك ما رجحت وظهر لي الآن أن القيام في مقام المنع هو الذي ندين به عند الله ، وفي سبل السلام . والحق أن الأصل الطهارة والدليل على القائل بالنجاسة فنحن باقون على الأصل ، وذهب الحنفية رحمهم الله إلى نجاسة المني كغيرهم ، ولكن قالوا يطهره الغسل ، أو الفرك ، أو الإزالة بالخرقة ، أو الإذخرة عملاً بالحديثين ، وبين الفريقين القائلين ، بالنجاسة والقائلين بالطهارة مجادلات ومناظرات وإستدلالات طويلة إستوفيناها في حواشي شرح العمدة انتهى .
والأصل الطهارة فلا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه لأن كون الأصل الطهارة معلوم من كليات الشريعة المطهرة وجزئياتها ، ولا ريب أن الحكم بنجاسة شئ يستلزم تكليف العباد بحكم من أحكام الشرع ، والأصل البراءة من ذلك ولا سيما من الأمور التي تعم بها البلوى ، وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السكوت عن الأمور التي سكت الله تعالى عنها وأنها عفو ، فما لم يرد فيه شئ من الأدلة الدالة على نجاسته فليس لأحد من عباد الله تعالى أن يحكم بنجاسته بمجرد رأي فاسد أو غلط في الإستدلال ، كما يدعيه بعض أهل العلم من نجاسة ما حرمه الله تعالى زاعماً أن النجاسة والتحريم متلازمان ، وهذا الزعم من أبطل الباطلات ، فالتحريم للشئ لا يدل على نجاسته بمطابقة ولا تضمن ولا إلتزام ، فتحريم الخمر والميتة والدم لا يدل على نجاسة ذلك ، وكأن الشارع قد علم وقوع مثل هذا الغلط لبعض أمته فأرشدهم إلى ما يدفعه قائلاً إنما حرم من الميتة أكلها ولم كان مجرد تحريم شئ مستلزماً لنجاسته لكان مثل قوله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم إلى آخره دليلاً على نجاسة النساء المذكورات في الآية والمسلم لا ينجس حياً ولا ميتاً كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح ، وهكذا يلزم نجاسة أعيان وقع التصريح بتحريمها وهي طاهرة بالإتفاق كالأنصاب والأزلام وما يسكر من النبات والثمرات بأصل الخلقة ،فإن قلت إذا كان التصريح بنجاسة شئ أو رجسيته أو ركسيته يدل على أنه نجس كما قلت في نجاسة الروثة ولحم الخنزير فكيف لم تحكم بنجاسة الخمر لقول تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس قلت : لما وقع الخمر ههنا مقترناً بالأنصاب والأزلام كان ذلك قرينة صارفة لمعنى الرجسية إلى غير النجاسة الشرعية ، وهكذا قوله تعالى : إنما المشركون نجس لما جاءت الأدلة الصحيحة المقتضية لعدم نجاسة ذوات المشركين كما ورد في أكل ذبائحهم وأطعمتهم والتوضؤ من آنيتهم والأكل فيها وإنزالهم المسجد كان ذلك دليلاً على أن المراد بالنجاسة المذكورة في الآية غير النجاسة الشرعية ، بل قد ورد البيان من الشارع لذلك بما لا يحتاج إلى زيادة فقال في وفد ثقيف لما أنزلهم المسجد : ليس على الأرض من أنجاس القوم شئ إنما أنجاسهم على أنفسهم فهذا يدل على أن تلك النجاسة حكمية لا حسية والتعبد إنما هو بالنجاسة الحسية ، وأما ما ورد فيه ما يدل على نجاسته ، ولكنه قد عورض بما هو أرجح منه . فلا شك أنه يتعين العمل بالأرجح فإن عورض بما يساويه فالأصل عدم التعبد بما يتضمن ذلك الحكم حتى يرد مورداً خالصاً عن شوب المعارضة أو راجحاً على ماعارضه .
وبالجملة : فالواجب على المنصف أن يقوم مقام المنع ولا يتزحزح عن هذا المقام إلى بحجة شرعية ، قال في سبل السلام : والحق أن الأصل في الإعيان الطهارة وأن التحريم لا يلازم النجاسة ، فإن الحشيشة محرمة طاهرة وكل المخدرات والسمومات القاتلة لا دليل على نجاستها ، وأما النجاسة فيلازمها التحريم ، فكل نجس محرم ولا عكس ، وذلك لأن الحكم في النجاسة هو المنع عن ملامستها على كل حال ، فالحكم بنجاسة العين حكم بتحريمها ، بخلاف الحكم بالتحريم فإنه يحرم لبس الحرير والذهب وهما طاهران ضرورة شرعية وإجماعاً . إذا عرفت هذا فتحريم الحمر الخمر الذي دلت عليه النصوص لا يلزم منه نجاستها بل لا بد من دليل آخر عليه وإلا بقيا على الأصول المتفق عليها من الطهارة فمن إدعى خلافه فالدليل عليه انتهى . وقد أوضح الماتن في مصنفاته كشرح المنتقى ووبل الغمام حاشية شفاء الأوام هذه المباحث المتعلقة بالنجاسة ما لا يحتاج الناظر في ذلك إلى النظر في غيره فليرجع *
فصل في كيفية تطهير المتنجس
ويطهر ما يتنجس بغلسه أي بإسالة الماء عليه ، ثم إن ورد فيه شئ عن الشارع كان الواجب الإقتصار في صفة التطهير على ذلك الوارد من دون مخالفة بزيادة عليه أو نقصان عنه ، كما ورد في أن النعل إذا تلوث بالنجاسة طهر بمسحه وقد تقدم ما يدل على ذلك ، وتقدم أيضاً ما ورد في كيفية تطهير ما ينجس بدم الحيض وبلعاب الكلب .
وبالجملة : فكل ماعلمنا الشارع كيفية تطهيره كان علينا أن نقتصر على تلك الكيفية ، وأما ما ورد فيه عن الشارع أنه نجس ولم يرد فيه بيان كيفية تطهيره فالواجب علينا إذهاب تلك العين .
حتى لا يبقى لها عين ولا لون ولا ريح ولا طعم لأن الشئ الذي يجد الإنسان ريحه أوطعمه قد بقي فيه جزء من العين وإن لم يبق جرمها ولونها ، إذ انفصال الرائحة لا يكون إلا عن وجود شئ من ذلك الشئ الذي له الريح ، وكذلك وجود الطعم لا يكون إلا عن وجود شئ من ذلك الشئ الذي له الطعم .
والنعل بالمسح وكذلك الخف لأنه جسم صلب لا يتخلل فيه النجاسة . والظاهر أنه عام في الرطبة واليابسة فيطهر من النجاسة التي لها جرم بالدلك ، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم حدوث الشكوك في الطهارات فيما يأتي من الزمان وأطلعه الله على ما يأتي به المصابون بالوسوسة من التأويلات التي ليس لها في الشريعة أساس ، أوضح هذا المعنى إيضاحاً ينهدم عنده كل ما بنوه على قنطرة الشك والخيال فقال : إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر نعليه فإن كان فيهما خبث فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما ولفظ أحمد وأبي داود : إذا جاء أحدكم إلى المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض ثم ليصل فيهما فانظر هذه العبارة الهادمة لكل شك ، فإنه أولاً بين لهم أنهم إذا وجدوا النجاسة في النعلين وجوداً محققاً فعلوا المسح بالأرض ، ثم أمرهم بالصلاة في النعلين ليعلموا بأن هذه هي الطهارة التي تجوز الصلاة بعدها ، ثم ترى أحدهم يلعب به الشيطان حتى يصير ماهو فيه نوعاً من الجنون فيغسل يده أو وجهه مرة بعد مرة حتى يبلغ العدد إلى حد يضيق عنه الحصر مع دلك شديد وكلفة عظيمة وإستغراق للفكر وهو يعلم بأن ذلك العضو لم تصبه نجاسة مغلظة ولا مخففة فلا يزال فى تعب ونصب ومزاولة لا يشك من رآه أنه لم يبق عنده من العقل بقية ، ثم إذا فرغ من العضو الأول بعد جهد جهيد شرع في العضو الثاني ثم كذلك ، وكثير منهم من يدخل محل الطهارة قبل طلوع الفجر ولا يخرج إلا بعد طلوع الشمس فما بلغ الشيطان هذا المبلغ من أحد العصاة لأنه عذب نفسه في معصية لا لذة فيها للنفس ولا رفعة للقدر ، وصار بمجرد مجاوزة الثلاث الغسلات كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن تجاوزها فقد أساء وتعدى وظلم فجمع له صلى الله عليه وسلم بين هذه الثلاثة الأنواع ثم لم يقنع منه بهذا حتى صيره تاركاً للفريضة التي ليس بين العبد وبين الكفر إلا تركها ، كما ثبت في الحديث الصحيح عن جابر بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه ، وأخرج أهل السنن وأحمد من حديث بريدة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر وأخرج الترمذي عن عبد الله بن شقيق العقيلي قال : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة فانظر كيف صار هذا الموسوس بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم مسيئاً متعدياً ظالماً كافراً إن بلغ إلى الحد الذي ذكرناه ، فهذا بإعتبار ما له عند ربه وأما بإعتبار ما له عند الخلق ، فأقل الأحوال أن يقال : مجنون يلعب به الشيطان في مخالفة شريعة الرحمن فخسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ، ومع هذا فهو يعذب نفسه بأشد العذاب وكثيراً ما يفضي به ذلك إلى علة كبيرة تكون سبباً لهلاكه فيلقى ربه قاتلاً لنفسه في معصية فلا يراح رائحة الجنة كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم ، فيمن قبل نفسه وهذه المحنة يقع فيها العالم والجاهل ، فمن كان جاهلاً اعتذر لنفسه بأعذار شيطانية قد استزله الشيطان بها فمنهم من يقول : لم أتيقن كمال الثلاث الغسلات في كل عضو ، وهو قد غسل ذلك العضو مئات ، ومنهم من يقول : أريد أن أغسل غسلاً مشروعاً لا تبقى شعرة ولا بشرة إلا وقد شملها الغسل والدلك ، فتراه يقلب يديه ورجليه ويدلك كل موضع منه في مقدار الجثة دلكاً فظيعاً ، فيشرع بالأنملة ثم يدلك جزءاً بعد جزء حتى يفرغ من الأصبع ، ثم يأخذ في الأخرى ، ثم كذلك فلا يفرغ من غسل يده إلا بعد مدة طويلة ، ثم يلعب به الشيطان فيشككه فيما قد غسله أنه لم يغسله فيعود إليه ثم كذلك فلا يكمل الثلاث الغسلات في زعمه إلا بعد أن يبلغ بنفسه إلى حد يرحمه من رآه ، ومن كان عالماً يعترف بأن هذا الفعل مخالف للشريعة وأنه وسوسة شيطانية ، وهو أقبح الرجلين فإنه ممن أضله الله على علم ونادى على نفسه بأنه منقاد لطاعة شيطانه في مخالفة خالقه مستغرق بعبادة عدو الله إبليس لم يبق فيه بقية تزجره عن معصيته ، فلم يستحي من الله فيحمله الحياء على إيثار الرحمن على الشيطان ، ولم يستحي من الناس فيردعه حياؤه عن التحدث لعباد الله بأنه قد اشتغل عن ربه بطاعته الشيطان ، وفي مثل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا لم تستحي فاصنع ماشئت . والحاصل : أن هذه المحنة قد عمت وطمت ، عند كل فرد من أفراد العباد منها جزء من الأجزاء وإن قل ، والكل من طاعة الشيطان ومخالفة الرحمن ، والناجي من ذلك هو الكبريت الأحمر وعنقاء مغرب ، والغراب الأبقع ، ومن أنكر هذا فليجرب نفسه ويعمل بمثل هذا النص الثابت عنه صلى الله عليه وسلم في مسح الأذى الذي يعلق بالنعل في الأرض ثم يصلي فيه ، وينظر عند ذلك كيف يجد نفسه ، مع أن ذلك هو المهيع الذي لا يرجح المجتهد سواه ، إن أنصف من نفسه فليصدق فعله قوله، وإن كان مقلداً فله بالأئمة الأسلاف قدوة وهم الأقل من القائلين بذلك ، وهيهات ذاك فإن الشكوك والخيالات قد جعلها الشيطان ذريعة يقتنص بها من لم يقع في شباكه المنصوبة للمتهتكين من العصاة المستهترين بمحبتها لأنه وجد قوماً لا تطمح أنفسهم إلى شرب الخمور وإرتكاب الفجور فحفر لهم حفيرة جمع لهم فيها بين خزي الدنيا والآخرة ، فهم أشقى أتباعه اللهم أعذنا من نزعات الشيطان وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة .
والإستحالة مطهرة أي إذا استحال الشئ إلى شئ آخر حتى كان ذلك الشئ الآخر مخالفاً للشئ الأول لوناً وطعماً وريحاً كاستحالة العذرة رماداً ، وقد أوضحت ذلك في كتابي دليل الطالب فليراجع ، وحققه الماتن في وبل الغمام والسيل الجرار وغيرهما .
لعدم وجود الوصف المحكوم عليه يعني فقد فقد الوصف الذي وقع الحكم من الشارع بالنجاسة عليه وهذا هو الحق والخلاف في ذلك معروف .
وما كان لا يمكن غسله من المتنجسات كالأرض والبئر ف تطهيره بالصب عليه أو النزح منه حتى لا يبقى أي لا يوجد للنجاسة أثر لأنها لو كانت باقية لكان التعبد بإذهابها باقياً ، ولكن هذا إنما يكون في مثل النجاسة التي جرم ولون وأما مثل البول فقد ورد عن الشارع أن تطهيره بأن يصب عليه ذنوب من ماء فإذا وقع ذلك صارت الأرض المتنجسة بالبول طاهرة .
أقول : البول على الأرض يطهره مكاثرة الماء عليه ، وهو مأخوذ مما تقرر عند الناس قاطبة أن المطهر الكثير يطهر الأرض وإن المكاثرة تذهب بالرائحة المنتنة وتجعل البول متلاشياً كأن لم يكن .في المسوى قال الشافعي رح تعالى : إذا أصاب الأرض بول أو غيره من النجاسة المائعة فصب عليها الماء حتى غلبها طهرت ، والغسالة طاهرة إذا لم يكن فيها تغير ولكنها لا تطهر ، وفرق بين ورود النجاسة على الماء وورود الماء على النجاسة . وعند الحنفية رحمهم الله تعالى الغسالة نجسة والأرض لا تطهر بصب الماء حتى تزول عنها الغسالة انتهى .
والماء هو الأصل في التطهير فلا يقوم غيره مقامه إلا بإذن من الشارع لأن كون الأصل في التطهير هو الماء قد وصف بذلك في الكتاب والسنة وصفاً مطلقاً غير مقيد بل قوله صلى الله عليه وسلم : الماء طهور يرشد إلى ما ذكرنا إرشاداً تشهد له قواعد علم المعاني وعلم الأصول ، فإذا ثبت عن الشارع أن تطهيره شئ من النجاسات يكون بغير الماء كمسح النعل بالأرض ونحو ذلك ، كان الماء غير متعين في تطهير تلك النجاسة بخصوصها بل نقتصر عليه هناك ويتعين الماء فيما عداها وهذا هو الحق . وقد ذهب الجمهور إلى أن الماء هو المتعين في تطهير النجاسات ، وذهب أبو حنيفة رح تعالى وأبو يوسف رح تعالى إلى أنه يجوز التطهير بكل مائع طاهر ، ويرد على الجمهور بما ثبت عن الشارع تطهيره